الأحد، 26 أغسطس 2018

هل تفسير نبي الله يوسف للأحلام من علمه بالتعبير أم من الوحي



هل تعبير يوسف عليه السلام 

للمنامات من علمه بالتعبير أم من علم الوحي



باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :

لايختلف أهل الفن في حدود علمي أن الكريم بن الكريم بن الكريم نبي الله يوسف عليه صلوات الله وأتم التسليم إماماً في الشأن وأن تعبيره للمنامات من علمه بها وليس من الوحي ؛ لأننا لو قلنا : إن تعبيره لها من الوحي فقد سلبنا منه وصف العلم بالتعبير ، وإن كان الوحي هو أعلى مقامات العلم ولكن علم التعبير يقوم على التأويل
ولكنهم اختلفوا في تفسيره لجزئية من رؤيا عزيز مصر وهي قوله : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } فمنهم من قال : هو من تفسير الرؤيا ، ومنهم من قال : بل هو شيء زائد عن الرؤيا فهو من علم الغيب تلقاه من الوحي !!
والجواب على هذا النزاع أن نقول : الخلاف في ذلك قديم عند علماء تفسير الآيات قبل متفنني تفسير المنامات ، فذهب البعض أن ذلك من علم الغيب وليس من تفسير الرؤيا ومنهم الطبري والقرطبي والنيسابوري والثعلبي وأغلبهم اعتمدوا قول قتادة في ذلك ، وربما غيرهم ممن لم نقف على قولهم !!
ولكن من حقي كـ طالب علم أولاً ، وكمعبر معتزل للأحلام ثانياً أن أرجح دون تعصب وأقرر ما ظهر لي بوضوح دون تقلب ، فأقول : الراجح أن هذا من تفسير الرؤيا وليس من علم الغيب ، وأبين أن هذا ظهر لي من عدة وجوه وليس من وجه واحد فقط وهي :

الوجه الأول : من قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } فقوله : { يجتبيك } أي : يصطفيك ويختارك ، دل على أن علم يوسف في التأويل ليس كعلم غيره فيه ، ولهذا تحتار العقول في ادراك مبلغه في هذا العلم وكيف توصل لما لايتوصل له غيره من أهل الفن مهما بلغوا من العلم ؛ فالمعبرون يشتركون معه في أصل الصنعة ولكنه ينفرد عنهم بكمالها وعميق أسرارها ؛ فهو تعلمه من الله تعالى وليس من كتب المعبرين ولا من النظر في أحوال العرف والقياس وطبائع الخلائق وغيرها

الوجه الثاني : أن عزيز مصر سأل عن رؤيا فالمعروف بديهة أن الجواب إنما يكون تعبيرها ، فكيف نقول : إن الجواب لم يكن تعبيراً وإنما وحياً !! أو أن بعضه تعبيراً وبعضه وحياً ؟ مع أن المتقرر أن جواب الرؤيا هو تعبيرها

الوجه الثالث : قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } فقال : { أنا أنبئُكم بتأويله } أي : أن الجواب سيكون تأويلاً للرؤيا وليس من غير ذلك وأقره الله تعالى وليس ي القرآن ما يدل أنه ليس تأولاً لها

الوجه الرابع : قول يوسف عليه السلام : { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } فذكر تعليم الله تعالى له علم التعبير بعد ذكره لحصوله على الملك الذي حصل بعد خروجه من السجن ؛ دل أن تعبيره للرؤيا هو السبب الرئيسي لخروجه من السجن وحصوله على الملك . إذا فهو تعبير وليس وحي وهذا استنتاج

الوجه الخامس : أن قول الذين قالوا إنه من الوحي وليس من التعبير عللوا ذلك أنه جاء بشيء زائد ليس في الرؤيا !! والجواب : أن من علم حجة على من لم يعلم ؛ فالحقيقة أن هذا القول منه عليه السلام إن لم يكن موجوداً في الرؤيا فهو موجودٌ في تأويلها ففرق بين الرؤيا وبين تأوي الرؤيا !! بل وهو مأخوذ منها وبشكل واضح أيضاً !! فالعبرة بقول من ظهر له وليس بقول من خفي عنه ؛ لأن الذي ظهر له ذلك عنده زيادة علم خفي على من لم يظهر له ذلك ؛ والمتقرر في علم الأصول أن المثبت مقدم على النافي ؛ لأن المثبت يقول : أعلم ، والنافي يقول : لا أعلم . أو بعبارات لها نفس المؤدى .

فإن قلت : وأين نجد قول الكريم يوسف عليه الصلاة وأتم التسليم : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } فالجواب : أن الرؤيا اقتضت أن أعوام القحط سبعة فعلم أن العام الثامن عام خصب ؛ لأنه لايصح نقلاً ولا عقلاً أن يقول لهم : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } ويكون العام الثامن أيضاً من أعوام الشدة ؛ فحصر الشدة في السبعة الأعوام المأخوذة من السبع البقرات العجاف قرينة قوية عند أهل الفن أن انتهاء المدة الشديدة دلالة أنه يعقبها دخول مرحلة جديدة معاكسة لذلك
فإن قلت : كلامك مقنع ولكننا لانقبله حتى تستند فيه لأقوال أهل العلم ؛ فإننا لا نقبل القول في القرآن إلا من العلماء ؟ قلت : وهل بنيت قولي إلا على قولهم وأسندت ظهري إلا على رشدهم فمنهم أخذت وطورت فكرتي على أساس حروفهم وهاكم أقوال لعلماء الذين قالوا بهذا القول الذي ندين به :

قال الإمام البقاعي رحمه الله في "نظم الدرر" ( 4 / 53 ) :
وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل ، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط ، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة اهـ

وقال العلامة البيضاوي رحمه الله في "أنوار التنزيل" ( 1 / 292 ) :
ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب والخصب أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم اهـ

وقال العلامة المحقق السعدي رحمه الله في "تيسير الكريم الرحمن" ( 1 / 399 ) :
ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب ، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك ؛ لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد أن العام الذي يليها يزول به شدتها ، ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات ، إلا بعام مخصب جداً ، وإلا لما كان للتقدير فائدة ، فلما رجع الرسول إلى الملك والناس ، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا ، عجبوا من ذلك وفرحوا بها أشد الفرح اهـ

وقال العلامة السعدي أيضاً في رد هذا القول في "تيسير اللطيف المنان" ( صـ / 475 ) :
فإن بعض المفسرين قال : هذه زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي إليه . فالجواب : ليس الأمر كذلك ، وإنما أخذها من رؤيا الملك ، فإن السنين المجدبة سبع فقط ، فدل على أنه سيأتي بعدها عام الخصب ، كثير البركات ، يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة التي لا يزيلها عام خصب عادي ، بل لا بد فيه من خصب خلاف العادة ، وهذا واضح وهو من مفهوم العدد اهـ

وقال العلامة ابن عاشور رحمه الله في "التحرير والتنوير" ( 12 / 287 ) :
وأما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } فهو بشارة وإدخال المسرة والأمل بعد الكلام المؤيس ، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة ، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر اهـ
وقال العلامة عبدالرحمن البراك في "شرح التدمرية" ( صـ / 214 ) بعد أن ذكر الآيات من أولها إلى قوله : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يعصرون } قال : فهذا الكلام تفسير للرؤيا اهـ

فصل : شبهة واجبها
فإن قال قائل وماذا عن قول النيسابوري ( 4 / 369 ) :أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال . وأيضاً في قوله : { وفيه يعصرون } نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي اهـ
الجواب : نرد عليه من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن ذلك فعلاً لا يلزم ولكنه قد يحصل ولا مانع من ذلك ، وأن يوسف رجح الخصوبة لزيادة علم في هذا الفن ليس عند غيره إلا أن يكون نبي مثله

الوجه الثاني : أنه لماذا لانقول أن انتهاء السبع مبشرة بعودة الأمور كما كانت وهذا وضع عادي ليس فيه مبالغة بالخصب ، ثم ننظر كيف كان الوضع قبل السبع الشداد ؟ والجواب : كان سبع في غاية الخصوبة حتى أنهم ادخروا منها ما كفاهم لسبع بعدها وكان الناس يأتون من أماكن بعيدة ليأخذوا حصصهم منها ؛ أنتج أن التفسير بعودة المياه لمجاريها وعودة الأمور كما كانت قبل السبع الشداد معناه الدخول بعام قوي الخصوبة

الوجه الثالث : أنه لاغرابة من التفصيل في باب التعبير فهو علم عميق المدى فكيف والمعبر هنا نبي كريم تلقى علم التأويل عن الله تعالى ، وهذا على فرض وجود التفصيل وإلا فالقول بوجود التفصيل مجرد ترجيح للاختلاف في قوله { وفيه يعصرون } فمن رجح أنه من عصر العنب أو الزيت رآه من نوع التفصيل على أنه قد يكون من باب رجوع الأمور لما كانت عليه كما في قوله : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } فهذا هو حالهم الأصلي ، ومع ذلك فالكثير فسروا { يعصرون } بنزول المطر ؛ لأنه قال : { فيه يغاث الناس } ولقوله تعالى : { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً } أي ماء ثجاجاً
وللعلامة المناوي تفسير عجيب للعصر هنا فقال :
قال العلامة المناوي في "فيض القدير" ( 4 / 295 ) : ( صلاة الوسطى صلاة العصر ) أي : الصلاة الفضلى هي العصر من قولهم للأفضل : أوسط ؛ وذلك لأن تسميتها بالعصر مدحة من حيث إن العصر خلاصة الزمان كما أن عصارات الأشياء خلاصاتها  { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } فعصر اليوم هو خلاصة لسلامته من وهج الحارة وغسق الليل ، ولتوسط الأحوال والأبدان بين حاجتي الغداء والعشاء التي هي مشغلتهم لحاجة الغداء ولتصادم ملائكة الليل والنهار فيها اهـ

الوجه الرابع : راجع كلام علامة القصيم الشيخ السعدي رحمه الله الذي سبق بدقة وإمعان ففيه زيادة توضيح وتبيان

فصل : في قول يوسف عليه الصلاة والسلام : { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }
استدل بها البعض على أن تفسير الكريم يوسف عليه الصلاة وأتم التسليم من قبيل الوحي وليس من ذات الرؤيا المنامية ، وقبل الجواب على أحب أن أنبه بقاعدة مهمة جداً وهي أن وجود الخلاف بين العلماء لايعني التسليم التام لقول طرف منهم ؛ فقد قال تعالى : { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } فوجود الخلاف لايعني احقاق قول وابطال آخر بمجرد التعصب أو الميل لقول دون آخر !! بل لابد من التحقيق والترجيح
وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الآية هل هذا التنبيء من أمور الغيب أم يقصد به أنه عرف ذلك من رؤياهما وقد ذكر الخلاف جماعة من العلماء ومنهم الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" ( 1 / 237 ) والمختار هو الثاني ؛ لسببين اثنين :
الأول : أن الرجلان قصا عليه رؤاهم المتضمنة للطعام والشراب فأحدهما رآى الخبز والآخر رآى الخمر ، وبعد أن قصا عليه رؤاهم قال لهما : { يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } فالسياق سياق الحديث عن الرؤيا فما دليل من قال إن ذلك في اليقضة ؟
الثاني : أنه قال لهما : { ذلكما مما علمني ربي } فنحن نقول : هذا العلم هو تأويل المنامات والدليل قوله : { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } ومن قال : إنه علم آخر فليخبرنا ماهو ومن أين عرف ذلك .
ومن هنا قال العلماء في تفسير الآية : قوله : { يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أي : في النوم { إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } أي : في اليقظة ، وقيل في تفسيرها أن هذا في اليقضة مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قاله الحسن والرازي وغيرهم
ورجحنا القول الأول للسببين المتقدمين وممن رجح ذلك المفسر الشربيني في "السراج المنير" ( 2 / 87 ) والطبري ( 16 / 100 ) والسدي وابن إسحاق ، والماوردي في "النكت والعيون" ( 3 / 3 / 37 ) وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" ( 13 / 290 ) و ( 17 / 365 ) والقرطبي ( 9 / 191 ) والشيخ محمد ين عبدالوهاب كما في "الدرر السنية" ( 19 / 247 )

هذا ما انتهى إليه فهمي وساقه قلمي في هذه المسألة وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت للصواب وأحسنت الجواب
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين


كتبه أخوكم
أبو العباس أنور بن محمود الرفاعي
15 – ذي الحجة – 1439 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق