الأربعاء، 29 أغسطس 2018

تفسير قوله تعالى { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الخ الآيات





شرح قوله تعالى

{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) 

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى : { قل تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } إلى قوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشرح :
{ قل تعالوا أتل } أي : تقدموا أقرأ عليكم وصية ربكم إليكم وبيان ماحرمه عليكم ؛ لأن بيان أصول المحرمات يستلزم حل ما سواها .
وفى نسبة التحريم إلى الرب { ماحرم ربكم عليكم } موعظة لهم للتأدب وحض لهم على التدبر والاستجابة ؛ لأن الذى حرم عليهم ذلك هو مربيهم ، فليس معقولا أن يحرم عليهم ما فيه منفعة لهم ، وإنما هو بمقتضى ربوبيته عليهم وتربيته لهم قد حرم عليهم ما يضرهم ولاينفعهم ، وهو أعلم بمصالحهم منهم ، ومن هنا جاء وعيد العذاب على من خالف مقتضيات هذه التربية .
 قال الإمام القرطبي رحمه الله : يقال للرجل : تعال ، أي تقدم ، وللمرأة تعالي ، وللاثنين والاثنتين تعاليا ، ولجماعة الرجال تعالوا ، ولجماعة النساء تعالين ؛ قال الله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [الأحزاب : 28]. وجعلوا التقدم ضربا من التعالي والارتفاع ؛ لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال ، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم ؛ واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي ؛ قاله ابن الشجري اهـ
وعليه فالأداء القرآني هنا في الفظ ( تعالوا ) يؤخذ بفهم أعمق من مجرد الإِقبال ومعناه أقبل عليّ إقبال من يريد التعالي في تلقي الأوامر . فأنت تقبل على أوامر الله تعالى لتعلوا وترتفع عن حضيض أوامر البشرية ؛ ولهذا قال : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } خلافا لما حرمتموه على أنفسكم لمجرد أوامر أناس مثلكم .
وقال رحمه الله : قوله تعالى : { مَا حَرَّمَ } الوجه في { مَا } أن تكون خبرية في موضع نصب بـ { تْلُ } والمعنى : تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم ؛ فإن علقت { عَلَيْكُمْ } بـ {حَرَّمَ } فهو الوجه ؛ لأنه الأقرب وهو اختيار البصريين. وإن علقته بـ { تْلُ } فجيد لأنه الأسبق ؛ وهو اختيار الكوفيين  فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم. { أَلَّا تُشْرِكُوا } في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول ، أي أتل عليكم ألا تشركوا ؛ أي أتل عليكم تحريم الإشراك ، ويحتمل أن يكون منصوبا بما في { عَلَيْكُمْ } من الإغراء وتكون { عَلَيْكُمْ } منقطعة مما قبلها ، أي عليكم ترك الإشراك وعليكم إحسانا بالوالدين ، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش ،  كما تقول : عليك شأنك ؛ أي الزم شأنك وكما قال : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة : 105] قال جميعه ابن الشجري : وقال النحاس : يجوز أن تكون { أن } في موضع نصب بد لا من { مَا } أي أتل عليكم تحريم الإشراك ، واختار الفراء أن تكون { لا } للنهي ؛ لأن بعده { ولا } اهـ

وقال العلامة أبو حفص ابن عادل الدمشقي رحمه الله :
قوله : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } في ( ما  )  هذه ثلاثة أوجُه :
أظهرها : أنها مَوْصُولةٌ بمعنى ( الَّذِي ) والعَائِد مَحْذُوفٌ ، أي : الذي حَرَّمَه ، والموْصُول في محلِّ نصْبٍ مَفْعُولاً به .
الثاني : أن تكون مَصْدَريَّة ، أي : أتْل تَحْريم ربِّكُم ، ونفس التَّحْرِيم لا يُتْلَى ، وإنما هو مَصْدرٌ واقعٌ موقع المَفْعُول به ، أي : أتلُ مُحَرَّمَ ربِّكم الذي حرَّمه هو .
والثالث : أنها استِفْهَاميَّة ، في محلِّ نَصْبٍ بــ ( حَرَّم ) بعدها ، وهي مُعَلقة لــ ( أتْلُ ) والتَّقْدير : أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم ، وهذا ضعيف ؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها اهـ
وقال الإمام القرطبي رحمه الله : 
هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله. وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل ، قال الله تعالى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران : 187]  اهـ

والمقصد من الأيات الانكار على كذب الكفار قي تحريم مالم يحرمه الله تعالى ، وهذا مبين بالآية القبلية للآيات المذكورة ، وهي قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } الأيات
وقد بين الله تعالى ماهي الأشياء التي حرمها في هذه الأيات وختمها بقوله : { ذلكم وصاكم به } ، ومن هنا يقال لما تضمنته هذه الأيات أنها وصايا الله تعالى  نسبة للموصي سبحانه أو نسميها الوصايا العشر نسبة لعدد الوصايا ، وهي على النحو التالي :

-       الوصية الأولى : في قوله تعالى : { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }
أى : أوصيكم ألا تجعلوا له شريكا في أي شيء من خصوصياته . بل خصوه وحده في ربوبيته ؛ فإنه لارب سواه وخصوه وحده في الوهيته ؛ فإنه لامعبود إلا إياه ، وخصوه وحده في أسمائه وصفاته ؛ فإنه لاسمي له جل في علاه .
المقصد من الآية تحقيق الضد وهو تحقيق التوحيد الظاهر والباطن { ألا تشركوا به شيئا } ، لأن الشرك يناقض الغاية التي خلقنا من أجلها وأمرنا بها في قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } فأمر بالعبادة وأمر بالإخلاص فيها ، وبين أن الاخلاص في العبادة هو الحنفية أي التوحيد الخالص .

وصدر - سبحانه - هذه الوصايا بالنهى عن الشرك ، لأنه سيد المحرمات وأكبرها إفسادا للفطرة ، كما أن التوحيد سيد الطاعات وأكبرها اصلاحا للفطرة .
وقد بين الله تعالى أن الشرك هو الذنب الذي لايغتفر لمن لم يتب منه فقال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وقد ساق القرآن الكثير من الآيات التى تدعو إلى التوحيد وتنفر من الشرك وتقيم الأدلة الساطعة والبراهين الدامغة على وحدانية الله - عز وجل – ومن هنا يعلم أن الوصية بالحذر من الشرك تحمل دلالة على سعة رحمة الله تعالى بعباده .


-       الوصية الثانية : في قوله تعالى : {  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }

قال العلامة القرطبي رحمه الله : 
قوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا ، وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد ، لأن النشأة الأولى من عند الله ، والنشء الثاني وهو التربية  من جهة الوالدين ، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [لقمان : 14] والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال أمرهما ، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما ، وصلة أهل ودهما اهـ
والأمر بالإحسان يقتضي ترك الاساءة بينما الامر بترك الاساءة لايقتضى الأمر بالإحسان ، ولهذا أمر الله به دون نهي عن ضده ، وقيل : جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى عن المحرم وهو الإساءة ، سموا بالإنسان عن أن تظن به الاساءة إلى الوالدين ، وكأن الإساءة إليهما  ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها .

والوالدان هما الأب ومن فوقه والأم ومن فوقها وكلما قربوا كان الإحسان أوجب 

-       الوصية الثالثة : في قوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ }
الإملاق : الفقر .
وهنا بدأ بذكر رزق الأباء قبل الأبناء فقال : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } وفي سورة الإسراء بدأ بذكر رزق الأبناء قبل الأباء فقال : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } والفرق بين الآيتين أن الأولى تحكى الفقر الحاصل { من املاق } أي  من فقر موجود ، وأما الثانية فإنها تحكي مجرد الخوف من فقر غير موجود { خشية املاق }
وعليه فليست إحدى الآيتين تكراراً للأخرى ، وإنما كل واحدة منهما تعالج قضية خاصة وذلك أن الآيتين على حالتين اثنتين :
الحالة الأولى : { مِّنْ إمْلاَقٍ } أى : لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم أيها الآباء لذا قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } فبدأ بذكر رزق الأباء قبل الأبناء ؛ لأن الفقر الذى يقتلون من أجله أولادهم حاصل لهم فعلا .
الحالة الثانية : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أى : لاتقتلوهم بسبب الخوف من الفقر الغير موجود ، ولكنه مجرد توقع لحصوله بسبب الأولاد ولذا قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فبدأ بذكر رزق الأبناء قبل الأباء لأنهم سبب توقع الفقر ، ليكف الآباء عن هذا التوقع .
ففى كلتا الحالتين القرآن ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس فى نفوس الآباء الثقة بالله والاعتماد عليه ، ويبين لهم أن القتل خوفا من الفقر غير جائز إذ لو كان جائزا لكان من الأولى أن يبدءوا بقتل أنفسهم لاتحاد العلة ، وماداموا لم يفعلوا ذلك مع أنفسهم فكذلك لا يجوز فعله مع أولادهم .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
لما أوصى تعالى ببر الآباء والأجداد ، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فقال تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خشية العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خيفة الافتقار ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله ابن مسعود ، رضي الله عنه، قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ) قلت: ثم أي ؟ قال: ( أن تزاني حليلة جارك ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }[1] [الفرقان :68] اهـ

-       الوصية الرابعة : في قوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }
الفواحش : جمع فاحشة وهي القبيح من الأقوال أو الأفعال ، ولايصح قصر الفاحشة على معصية الزنا بل الزنا فاحشة من ضمن الفواحش .
وقوله : { ماظهر منها وما بطن } على ثلاثة احتمالات :
الأول : { ما ظهر } ما أبنتموه وأعلنتموه وجاهرتم به { وما بطن } أي : وما كتمتموه وأسررتموه وتسترتم به .
الثاني : { ما ظهر } من أمور الجوارح { وما بطن } من أمور القلب .
الثالث : { ما ظهر } ماكان تحريمه ظاهر دون أي اشتباه { وما بطن } ما كان في تحريمه لبس واشتباه .
قال الامام ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير :
قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } فيه خمسة اقوال :
أحدها : أن الفواحش الزنا وما ظهر منه الإعلان به وما بطن الاستسرار به قاله ابن عباس والحسن والسدي
والثاني : أن ما ظهر الخمر ونكاح المحرمات وما بطن الزنا قاله سعيد بن جبير ومجاهد
والثالث : أن ما ظهر الخمر وما بطن الزنا قاله الضحاك
والرابع : أنه عام في الفواحش وظاهرها علانيتها وباطنها سرها قاله قتادة
والخامس : أن ما ظهر أفعال الجوارح وما بطن اعتقاد القلوب ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع وفي تفسير قوله وذروا ظاهر الإئم وباطنه والنفس التي حرم الله نفس مسلم أو معاهد والمراد بالحق إذن الشرع اهـ

وهذه الآية كقوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } [الأنعام :12] وكقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف :33] إلا أن بينهما فرق من حيث الترتيب فالأولى بدأت بترتيب الذنوب الأكبر ثم الأقل منه وهذه الآية بدأت بترتيب الذنوب الأكبر ثم الأكبر منه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في اعلام الموقعين (1/38) :
فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه اهـ
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) .
وقال سعد بن عبادة : لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أتعجبون من غيرة سعد! فو الله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن )  
وقال : { ولا تقربوا } ولم يقل : ( ولا تأتوا ) وهو نهي عن الاقتراب الموصل إلى الاتيان فهي نهي عن القيام بالفعل وما يوصل إليه لا نهي عن الفعل فقط .
 قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
أي : لا تقربوا الظاهر منها والخفي ، أو المتعلق منها بالظاهر، والمتعلق بالقلب والباطن .
والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها ، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها اهـ
وحينما أراد الله أن يحرم على آدم وعلى زوجه الشجرة قال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة . . . } [ الأعراف : 19 ] ، لأن القرب قد يغري بالأكل ، وكذلك : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش } أي لاتقترب من حمى الفواحش خشية مواقعتها كمد النظر للرجل ، وكالتبرج للمرأة ؛ لأن هذا من تتبع خطوات الشيطان ومن اقترب من الباطل خطوة ابتعد عن الحق خطوتين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب » .
وفي لفظ : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه )
وجاء المنع : ألاّ تقرب ، أي أبتعد عن موطن الزلل مظنة أن تستهويك الأشياء ، وهي كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [ الحج : 30 ] فالاجتناب هنا بمعنى الابتعاد وهو ضد الاقتراب ومنه قوله تعالى : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } وهنا يقول تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وعلى كل فالنهي عن الاقتراب هو نهي عن الغاية المحرمة وعن الوسائل الموصلة اليها .
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير ( 2/ 186 ) :
وقوله : ( فلا تقربوها ) وهو يتحدث عن قوله تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها  ) 
: نهى عن مقاربتها الموقعةِ في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالباً كما قال تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث ( من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) اهـ .

-       الوصية الخامسة : في قوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }
والنفس التي حرم الله منهم من فسرها بالنفس المؤمنة وهذا تفسير قاصر والصحيح أن النفس التي حرمها الله تعالى تحرم بثلاثة أمور : الإسلام ، والعهد ، والذمة ، فتحرم بإسلامها وإن كفرت فتحرم بعهدها وذمتها
وقوله : { إلا بالحق } استثناء من { ولاتقتلوا } فهو تقييد بعد اطلاق ، وهو على ثلاث حالات : الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان والقصاص لمقتل انسان .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا ، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقد جاء في الصحيحين ، عن ابن مسعود  رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة )[2] اهـ

وقال العلامة عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ :
قوله: ( ولا تقتلوا النفس ) هذا تعميم بعد تخصيص ؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد أولاً وهو من قتل النفس، ثم جاء هنا التعميم فقال: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) ، فهذا يشمل حتى الكفار إذا كان لهم عهد ولم يكن هناك حرب بين المسلمين وبينهم، فلا يجوز قتلهم في أي حال من الأحوال ، وقد جاء في الحديث : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً ) ، والحديث في صحيح مسلم ، فقوله : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ) ، أي : وهو كافر ، فكيف بالذي يقتل مسلماً ؟
... ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول : (من قتل مسلماً فلا توبة له) ؛ لأن الله جل وعلا يقول : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } [النساء:93]، وقد أخبر الله أنه يغضب عليه ويلعنه ويعد له جهنم ، ولكن الصواب الذي عليه العلماء أن القاتل إذا تاب تاب الله عليه ، ويقول ابن القيم رحمه الله في هذا : إن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق لله جل وعلا حيث حرم القتل ، فهذا إذا تاب الإنسان منه تاب الله عليه ، وحق لأولياء المقتول وهذا يسقط بالقصاص أو بدفع الدية أو بالعفو ، وحق للمقتول نفسه فهذا لا يسقط ، ولابد من استيفائه يوم القيامة إلا إذا شاء الله ؛ فإنه قد يرضي المقتول عن القاتل ، ولهذا جاء أن أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء ، وأن المقتول يأتي يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً متعلقاً بقاتله يقول: يا رب! سل هذا لم قتلني؟ وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )
قالوا : يا رسول الله! هذا القاتل – أي : أمره ظاهر- فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) ، فالقتل محرم عموماً ، كما قال تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32] ، فهو أمر عظيم جداً اهـ
ولما تآمر القوم على قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قال :  ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كَفَر بعد إسلامه ، أو زنا بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس ) فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم تقتلونني  ؟ [3]
وتحت هذه الفقرة من الآية مسألة وهي في حكم من قتل مؤمنا متعمدا وذلك أن قتل المؤمن متعمدا بغير حق داخل في نهي الآية التي نحن بصدد التعليق عليها ، بل إنه من أشد مانهي عنه في هذا الباب كما في قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تفسير هذا الوعيد على محطتين اثنتين : المحطة الأولى هل هو كافر أم لا ، والمحطة الثانية هل له توبة أم لا
المحطة الأولى : هل هو كافر أم لا ؟
المحطة الثانية : هل له توبة أم لا ؟
وفي تأويل مختلف الحديث للدينوري ( 1 / 83 ) أن قريش بن أنس قال سمعت عمرو بن عبيد يقول يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله فيقول لي لم قلت إن القاتل في النار فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها قلت له وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك قد قلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر قال فما استطاع أن يرد علي شيئا اهـ
قال العلامة ابن جزي رحمه الله :
وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول : لا يخلد عصاة المؤمنين في النار ، واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار لقوله : { خالداً فيها } وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه :
أحدها : أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمناً .
والثاني : قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل ، وذلك يؤول إلى الكفر .
والثالث : قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي وإنما هو عبارة عن طول المدة .
والرابع : أنها منسوخة بقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ]
وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] ، واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة وبقول ابن عباس : الشرك والقتل من مات عليهما خلد ، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل ذنب عسى الله أن يغفره ، إلاّ الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً » وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكماً يخصه من بين سائر المعاصي ، واختلف الناس في القاتل عمداً إذا تاب ، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا ؟ والصحيح أنه يسقط عنه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أصاب ذنباً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة » وبذلك قال جمهور العلماء اهـ
وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال أمرني عبد الرحمن بن أبزى قال سل ابن عباس عن هاتين الآيتين ما أمرهما ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ( الفرقان 86 ) ومن يقتل مؤمنا متعمدا ( النساء 39 ) فسألت ابن عباس فقال لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركو أهل مكة فقد قتلنا النفس التي حرم الله ودعونا مع الله إله آخر وقد أتينا الفواحش فأنزل الله { إلا من تاب وآمن } الآية فهذه لأولئك وأما التي في النساء الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم خالدا فيها فذكرته لمجاهد فقال إلا من ندم أي : إلا من تاب
ولهذا قال زيد بن ثابت كما في المعجم لما نزلت هذه الآية التي في الفرقان : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } عجبنا للينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت التي في النساء : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه }
قال العلامة العيني في عمدة القاري على صحيح البخاري ( 6582 ) :
وحاصل الكلام أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إن قاتل النفس عمدا بغير حق لا توبة له واحتج في ذلك بقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ( النساء 39 ) ادعى أن هذه الآية مدنية نسخت هذه الآية المكية وهي والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ( الفرقان 86 ) الآية هذا هو المشهور عن ابن عباس وروي عنه أن له توبة وجواز المغفرة له لقوله تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ( النساء 011 ) وهذه الرواية الثانية هي مذهب جميع أهل السنة والصحابة والتابعين ومن بعدهم قال النووي وما روي عن بعض السلف مما يخالف هذا فمحمول على التغليظ والتحذير من القتل وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس تصريح بأنه يخلد وإنما فيها أنه جزاؤه ولا يلزم منه أن يجازى
قوله : فذكرته لمجاهد أي قال عبد الرحمن بن أبزى فذكرت الحديث لمجاهد بن جبير فقال إلا من ندم يعني قال الآية الثانية مطلقة فتقيد بقوله إلا من ندم إلا من تاب حملا للمطلق على المقيد اهـ

-       الوصية السادسة : في قوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }
 أولا : سبب نزول الآية :
قال أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله عز وجل ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه اهـ
قال العلامة الألباني برقم (2871 ) : حسن اهـ
 ثانيا : شرح الآية :  
ذكر في الآية السابقة المنع من الاقتراب من الفواحش ماظهر منها ومابطن وهنا منع من الاقتراب من مال اليتيم كتخصيص بعد تعميم  لتأكيد الأمر وبيان أهميته ، وقال : { ولاتقربوا } ولم يقل : ( ولاتأكلوا ) ليعم النهي جميع وجوه التصرف فيه ، ثم استثنى التصرف الحسن وهو القيام بتنميته وتنمية المال منه الحلال ككسب الأرباح عن طريق التجارة ومنه الحرام ك ككسبها عن طريق وضع المال في البنوك .
وهذه الآية مثل قوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }
فقوله : { وابتلوا اليتامى } أي اختبروا اليتامى في دينهم وعقولهم وحفظهم لأموالهم ، وقوله : { حتى إذا بلغوا النكاح } أي بلغوا مبلغ الرجال والنساء بالبلوغ ، وقوله : { فإن آنستم منهم رشدا } أي عقلا وصلاحا ومعرفة بما ينفعه مما يضره في سياسة ماله ، وذهب سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي أنه لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :
قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم الغاية في قوله : {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ، إنه إذا بلغ أشده ، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن ، وليس ذلك مراداً بالآية ، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله ، إن أونس منه الرشد ، كما بينه تعالى بقوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ، والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ، بدليل قوله تعلى : { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً } الآية .
والبلوغ يكون بعلامات كثيرة ، كالإنبات ، واحتلام الغلام ، وحيض الجارية ، وحملها ، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمسة عشرة سنة ؛ ومن العلماء من قال : إذا بلغت قامته خمسة أشبار، فقد بلغ، ويروى هذا القول عن علي ، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب : 
ما زال مذ عقدت يداه إزاره *** فسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني خوافق من خوافق تلتقي *** في ظل معتبط الغبار مثار
والأشد ، قال بعض العلماء : هو واحد لا جمع له كالآنك ، وهو الرصاص ، وقيل : واحده شد كفلس وأفلس ، قاله القرطبي وغيره ، وعن سيبويه أنه جمع شدة ، ومعناه حسن ، لأن العرب تقول : بلغ الغلام شدته إلا إن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود، اهـ

-       الوصية السابعة : في قوله تعالى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
{ أوفوا } من الاستيفاء وهو اتمام الشيء وعكسه التخسير وهو الانقاص من الشيء ، وفي ذلك يقول الله تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) ل الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) } والمعنى أنهم ماكان لهم فهم يستوفوه وماكان عليهم فهم يخسروه ، وهذا مجانب للقسط في الكيل والوزن بل هو في بينونة عنه ، وذلك أن القسط هو الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ، وفي ذلك يقول تعالى : {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا الناسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:181-183] ، وهذه الآية تبين أن الكيل هو نفسه الميزان لأن معناها زنوا ما تكيلون ، كما أن ذكر الكيل والميزان في غيرها من الآيات تذكر المحل ( وهو آلة الكيل والوزن ) ويراد بها الحال ( وهو المطروح فيه ) وقيل إنهم كانوا يستخدمون الكيل في الطعام وهو الغرف بالعدد ، والميزان في الذهب والفضة وهو بالحجم والجرم .. والله أعلم .
وقوله : { لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } لها احتمالين اثنين كلاهما صحيح :
الأول : أي أن الوفاء بالكيل ليس فيه كلفه بل الكلفة على النفس بمخالفة ذلك ؛ لأنه تعريض لها للويل وهو الوعيد ولاطاقة لها بنزوله إن نزل .
والثاني : أي افعلوا ذلك ما استطعتم اليه فإن وقع منكم الخلل عن غير قصد فإنه لا حرج عليكم لعدم القصد .
وأمر الوفاء بالكيل جاء في القرآن على ثلاث حالات :
الحالة الأولى : الأمر بذلك دون ذكر الثواب للفاعل أو العقاب للتارك ، كما في هذه الآية { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } .
الحالة الثانية : الأمر بذلك مع ذكر الترغيب بالثواب للفاعل ، كما في قوله تعالى : {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، أي وأحسن مئالا .
الحالة الثالثة : الأمر بذلك مع ذكر الوعيد بالعقاب للتارك ، كما في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) ل الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) }

-       الوصية الثامنة : في قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى }
ويدخل في قوله : { ذا قربى } عموم الأقارب ، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك ، ولو كان على نفسه أو والديه ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ }  .
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله :
هذا جامعٌ كلّ المعاملات بين النّاس بواسطة الكلام وهي الشّهادة ، والقضاء ، والتّعديل ، والتّجريح ، والمشاورة ، والصّلح بين النّاس ، والأخبار المخبِرة عن صفات الأشياء في المعاملات : من صفات المبيعات ، والمؤاجرات ، والعيوب ؛ وفي الوعود ، والوصايا ، والأيمان ؛ وكذلك المدائح والشّتائم كالقذف ، فكلّ ذلك داخل فيما يصدر عن القول .
والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق : بإبطالها ، أو إخفائها ، مثل كتمان عيوب المبيع ، وادّعاء العيوب في الأشياء السّليمة ، والكذب في الأثمان ، كأن يقول التّاجر : أُعطيت في هذه السلعة كذا ، لثمن لم يُعْطَه ، أو أنّ هذه السّلعة قامتْ علي بكذا . ومنه التزام الصّدق في التّعديل والتّجريح وإبداء النّصيحة في المشاورة ، وقول الحقّ في الصّلح . وأمّا الشّهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر ، وإذا وَعَد القائل لا يُخلِف ، وإذا أوْصَى لا يظلم أصحابَ حقوق الميراث ، ولا يحلف على الباطل ، وإذا مدحَ أحداً مدحه بما فيه ، وأمَّا الشّتم فالإمساك عنه واجب ولو كان حقّاً فذلك الإمساك هو العدل لأنّ الله أمر به اهـ .
والعدل في القول هو الصدق فيه ، وقوله : { وإذا قلتم فاعدلوا } كقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وظاهرها التخيير بين الصدق في القول أو السكوت عنه وعدم القول بالكلية والصواب أنه ظاهر مؤول على التفصيل التالي .   
لاشك أنه سكوته عن القول إثم ونطقه به على خلاف ماهو عليه اثمين ، فالأول فيه اثم الكتم والثاني فيه اثم كتم الحق واثم الكذب بالباطل ، إلا أن الأول ليس على اطلاقه وذلك أنه قد يسكت إن قام بالشهادة غيره ولم يحتج إلى شهادته .
قال العلامة السعدي رحمه الله :
{ وَإِذَا قُلْتُمْ } قولا تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال { فَاعْدِلُوا } في قولكم، بمراعاة الصدق في من تحبون ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم .
بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع ، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه ، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ، ويعتبر قربها من الحق وبُعدها منه اهـ .

-       الوصية التاسعة : في قوله تعالى : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا }
 أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله ، وبين في موضع آخر أن الناس سيسألون عن هذا العهد يوم القيامة ، فقال : { وَأَوْفُوا بالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } أي مسؤولا عنه .
والعهد يأتي ويراد به الميثاق ويأتي ويراد به الوصية

-       الوصية العاشرة : في قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }
دلت الآية أن صراط الله واحد وأن سبل التفرق عنه كثيرة وأن من تبعها وسار معها وعليها فقد تفرق عن السبيل الأصل وعلى قدر ولوجه فيها على قدر انحرافه عنه ؛ فمنهم من يلج فيها ويضل عن سبيل الله مع بقائه على أصل الإسلام ومنهم من يلج فيها حتى يفترق عن الإسلام بالكلية
كما تشير الآية أن أول الضلال هو الخروج عن المسار ولو بخطوة  وأنه كلما أبتعد أكثر كلما كان رجوعه أبعد ؛ لأن من أبتعد عن الشيء لايراه بوضوح وربما لايراه بالكلية
والمقصد من الآية هو الارشاد بالتمسك برسالة الله تعالى كما جاءت وأنها السبيل المستقيم للوصول إلى جنة الله تعالى ، وأن من سار على الطرق الأخرى فإنه سار على طرق معوجة في الدنيا وغير موصلة للنجاة في الآخرة

  


كتبه أخوكم 
أبو العباس أنور الرفاعي 
أوائل شهر رجب 1435 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق