التحبير في تحرير حديث التأبير
(( الرد على من رد السنن متمسكاً بحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم ))
ـــــــــــــــــــــ
أولاً : الحديث
أخرجه مسلم ( 6277 ) عن أنس أن النبى -صلى الله عليه وسلم- مر بقوم يلقحون فقال « لو لم تفعلوا لصلح ». قال فخرج شيصا فمر بهم فقال « ما لنخلكم ». قالوا قلت كذا وكذا قال « أنتم أعلم بأمر دنياكم ».
ثانياً : الشرح :
وقد تعلق بهذا الحديث أربعة أصناف من الناس :
- الصنف الأول : أهل العلم وأتباعهم فأخذوا الحديث واستنبطوا منه الفوائد برساخة فقهٍ ورجاحة فهمٍ ففادوا واستفادوا
- الصنف الثاني : أعداء الدين من الكفار والمنافقين الذين اتخذوه مطيةً للتشكيك في علم النبوة فقاسوا كل أفعاله وأقواله على هذا الحديث وأنها تحتمل الخطأ كما احتمل هذا الحديث الخطأ
- الصنف الثالث : العلمانيين الداعين إلى فصل الدنيا عن الدين ، ويعللون أنهم أعلم بأمور دنياهم ويدخلون في ذلك السياسة والاقتصاد والطب وو الخ
- الصنف الرابع : الحمقى والمغفلين من أهل الجهل والجدل والمين فلاتراهم ينصحون بأمر فيه صلاحهم إلا ويردون عليك بأن هذه قضايا دنيوية لايلزم بقبول النصوص فيها
وكل هؤلاء الأصناف [ عدا الكفار ] لاتستدل عليهم بدليل شرعي إلا وبادروا برده والاعتراض عليه بأن هذا من النصوص التي تتدث عن الأمور الدنيوية وليست ملزمة ولا تعبدية وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك باجتهاده وهو بشر يصيب ويخطئ ، وهكذا بدأت مرحلة المنافقين لرد وصد الدين
وفي مجالنا هذا وهو مجال الطب ظهرت علمانية جديدة وهي ( فصل الدين عن الطب ) !! فقد واجهت الكثير ممن لا يؤمنون بالطب النبوي من أساسه ويقدمون عليه مايسمونه بالبحوثات العلمية والدراسات الأكاديمية ، فما قاله النبي عليه والسلام في حديث ( الذبابة ) كان اجتهادا منه ( وهم أعلم بأمور دنياهم ) وما قاله في حديث ( ألبان وأبوال الابل ) كان أيضاً اجتهاداً منه ( وهم أعلم بأمور دنياهم ) وهكذا ماتذكر لطبيب منهم حديثاً في الطب النبوي يصادم فكرته ومدرسته إلا وبادر لانكاره مدعٍ أن الدراسات والبحوثات العلمية تخالف ذلك ، وما علم هذا المسيكين أن البحوثات والدراسات أمام طب الوحي تساوي صفراً على اليسار في العمليات الحسابية ، بل إن هذه الشنشنة والدندنة باتة سقيمة ، فكم أنكر الغرب حديث ( الذبابة ) واليوم أصبحت هناك المعامل لاستخراج الدواء وعلاج أمراض مستعصية من الذباب الذي أنكروه بالأمس ، فباتت شبهاتهم الجائرة أمام صمودنا في وجوههم بائرة
وأما عن (( حديث أنتم أعلم بأمور دنياكم )) فقد عنيت في هذه الأسطر أن أبين الفقه الصحيح والمعنى الصريح فيه فأقول مستعيناً بالله تعالى :
- أولاً : أن الأصل في أوامر النبي عليه الصلاة والسلام أنه إما للوجوب أو للاستحباب أو للارشاد ، والقرائن هي التي تفصل في تحديد نوع الأمر ، وأما في هذا الحديث فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم من الأساس بترك التأبير وإنما طرح عليهم رأيه الشخصي وأخبرهم في حينها أن هذا ظناً منه ولم يقل : إنه أمر شرعي ، ولهذا وقع في رواية مسلم برقم ( 6275 ) أنه قال : « ما أظن يغنى ذلك شيئا » فاللفظ واضح أنه رد الأمر لظنه وليس للشرع ، ولهذا لما أصبحت شيصاً قال لهم : « إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإنى إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإنى لن أكذب على الله عز وجل »
- ثانياً : الحديث لايدل بوجه من الوجوه على فصل الدين عن أمور ( الدنيا ) أو عن أمور ( البدن ) فالاسلام جاء بصلاح ( الدين ، والدنيا ، والبدن ) ولهذا لما شكا إليه أحدهم بطن أخيه قال له : ( اسقه عسلاً ) وعندما عاد إليه في الثانية والثالثة كرر عليه : ( اسقه عسلا ) وفي الأخيرة عندما أخبره أن أخاه لم يستفد من العسل ، لم يقل له : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) بل قال له : ( صدق الله وكذبت بطن أخيك ) وهذا دليل أن مايقوله نبينا عليه الصلاة في مجال الطب أنه ليس من الرأي كمسألة التأبير ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لايعرض أبدان الآخرين للرأي
ولمتابعة أبرز الأدلة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان طبيبا يستقي علمه من الوحي وليس من التجربه وعادة قومه انظر رسالتي ( فوائد وقواعد الطب )
- ثالثاً : أن النبي عليه الصلاة والسلام لما حكم بين مختلفين في أمر ( سقيا الزرع ) وهي من أمور ( الدنيا ) أنزل الله تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وقال في الآية الثانية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } فدلت الآية أن أوامر النبي عليه الصلاة الدنيوية أصبحت ملزمة ؛ لأن الدنيا خاضعة للدين وفي هذه الآية رد واضح عليهم أنه ليس لهم خيار هل يفعلون أو لايفعلون
- رابعاً : أن الأصل في أمور الدنيا وعلومها ( كالكيمياء والفيزياء والصناعات ) ومنافعها ( كالأكل والشرب والملابس ) هو الاباحة إلا أن هذه الاباحة لم تترك كالأغنام السائبة حيث يهدم الدين من قبيل مباحات الدنيا ، ولهذا كانت هذه الأمور تستقي حلها أو حرمتها من الدين فهي خاضعة لضوابطه حتى لايؤتى الدين من قبلها ، ولهذا استثنى الدين من مباحات الدنيا الأشياء الكثيرة وأدرجها في قائمة التحريم ؛ لأسباب جانبية كالتشبه في الملبوسات أو الاعتقاد الفاسد في الطبيات أو الظلم في التجارات وو إلى غير ذلك من الأمثلة الواضحة
- خامساً : أن قوله : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) لاتعني أنه جاهل بأمور الدنيا بل تدل أنه عنده علم بها وبأمورها إلا أنهم أعلم منه فيها ، ولهذا قال : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ولم يقل : ( لا علم لي بأمور دنياكم ) فإذا ثبت عندنا أنه لم ينتفِ عنه علم الدنيا قلنا : إن ماعلمه منها على قسمين : قسم مكتسب من المعايشة وقسم مكتسب من الوحي فما كان اكتسبه من المعايشة فهم أعلم به منه لأنها دنياهم ، وما كان اكتسبه من الوحي فهو أعلم به منهم لأنه صار من مرتبطاً بالدين
- سادساً : أن الأصل في كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو العمل به إلا لقرينة دالة أنه قال ماقال من قبيل الرأي والظن وهذه القرينة موجودة في حديث ( التأبير ) فلايقاس عليه غيره إلا بقرينة تقاس عليها ، وهذا معدوم تماماً في كل أحاديث الطب النبوي ومن زعم غير ذلك فليأتي بحجته وليس بآتٍ بها
- سابعاً : أنه في حديث ( التأبير ) أخبرهم في لحظتها أن ذلك من ظنه وأكد عليهم ذلك بعدها مرة أخرى ، وأما أحاديث الطب فإنه لم يخبرنا أنه قالها من ظنه فليس لأحد أن ينسبها للظن إلا بنص من قوله كما في قصة ( التأبير ) ومن خالف ذلك فقد أخذ ببعض حديث ( التأبير ) وترك البعض الآخر من نفس الحديث ، وهذا هو الهوى بعينه
- ثامناً : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن ) وهذا دليل أنه تحدث في الطب ؛ لأنه طبيب عالم به بل وإمام فيه ومن المحال أن ينهى أمته عن التطبب بالظن ثم يخالف قوله فعله ، فهو لايفعل ما ينهى عنه صلى الله عليه وسلم ، وعليه فلا يقيس أحاديث ( الطب النبوي ) على حديث ( التأبير ) إلا جاهل محارب للعلم ، مبطل محارب للحق .
هذا ما تيسر جمعه واستنباطه حول هذه المسألة في هذه العجالة متمنياً من الثابتين على الحق عدم المبالاة بالمشككين به والمضي قدماً في هذا العلم العظيم .
كتبه أخوكم
أبوالعباس أنور الرفاعي
20/5/1437 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق