المركب التام
في علاقة الفراسة بتفسير الأحلام
وهل يمكن تعَلُمَهُ أم أنه مجرد إلهام
؟!!
____________
وبعد نشري للبحث السابق –المختصر- في
بعض الشبكات تلقيت من بعض المفسرين الكيل من الشتام وشيء من الاتهام فأردفته بهذه
الرسالة وهي : "المركب التام .. " وقد حظيت بالقبول عند البعض ، ولم تحظ
به عند البعض الآخر فقلت فيها :
أولاً : مقدمة الموضوع :
كنت قد كتب رسالة عنوانها
: [ هل تفسير الأحلام علم أم فراسة ] خلصت فيها لما أراه صواباً بمقتضى الدليل ومنتهى
التعليل
وقد أنكر علي بعضهم ذلك
فأحببتُ أن أدعم ذيكم الرسالة بأختها فتشد من عضدها وتكشف غامضها .. والله من وراء
القصد
ثانياً : التحقيق
في المسألة :
وأقسم هذه اللائحة من المقال إلى قسمينِ
اثنينِ هما : التحقيق في مسألة هل يُعلم أم لايعلم ، والتحقيق في مسألة هل هو علم أم
فراسة
أولاً : هل يُعلم ويتعلم أم لا ؟
غاية مافي هذه المسألة أنهم اختلفوا فيها
فمنهم من يقول : لاتدرس وأنه الهام يقذفه الله في قلب المفسر ، ومنهم من يقول : بل
هو علمٌ يدرس ويؤجر على تعلمه وتعليمه ، وقد اخترتُ لنفسي ترجيح هذا القول مع كامل
الاجلال والتقدير لأصحاب القول الآخر من أهل العلم ، ومن العلماء الذين يرجحون القول
بإمكانية تدريسه
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح
مسلم ( 30/15 ) :
وفي الحديث الحث على علم الرؤيا والسؤال
عنها وتأويلها اهـ
وقال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في التمهيد
( 1/ 313 ) :
وهذا الحديث يدل على شرف علم الرؤيا وفضلها
لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يسئل عنها لتقص عليه ويعبرها ليعلم أصحابه كيف الكلام
في تأويلها اهـ
وقال الإمام ابن سعد رحمه الله في الطبقات
5/ 124 :
قال محمد بن عمر : وكان سعيد بن المسيب
من أعبر الناس للرؤيا وكان أخذ عن أسماء وأخذته أسماء عن أبيها اهـ
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد
المعاد (3/615-616) عند ذكر أحد شيوخه المبرزين في التعبير وهو أبو العباس المقدسي
المعروف بالشهاب العابر :
وهذه كانت حال شيخنا هذا ، ورسوخه في علم
التعبير ، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء ، ولم يتفق لي قراءةُ هذا العلم عليه لصغر السن واخترام
المنية له رحمه الله تعالى اهـ
وقال الإمام الشهاب العابر رحمه الله في
مقدمة كتابه « البدر المنير » ( ص / 1 ) :
وبعد : فإنه ندبني جماعة إلى جمع مقدمة
في علم المنام فأجبتهم إلى ذلك ، ولقبتها بـ
البدر المنير في علم التعبير ، وجعلتها بلغةً للمبتدي ، وبلاغاً للمنتهي ، ينتفع
بها المتعلمون ، ويرتفع بها المعلمون اهـ
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح
( 12/ 437 ) :
وفيه الحث على تعليم علم الرؤيا وعلى تعبيرها
وترك إغفال السؤال عنه اهـ
وقال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره
( 1/407 ) :
علم التعبير من العلوم الشرعية ويثاب الانسان
على تعلمه وتعليمه وتعبير المرائي داخل في الفتوى لقوله للفتيين : {
قضي الأمر الذي فيه تستفتيان }
وقال الملك : {
أفتوني في رؤياي }وقال
الفتى ليوسف : {
أفتنا في سبع بقرات ...}
فلايجوز الاقدام على تعبير الرؤيا من غير علم .. اهـ
وقال العلامة عبدالكريم الخضير حفظه الله
كما في المصباح المنير في رموز التعبير ( صـ
26 ) عندما سئل هل هو علم مرئي يمكن ضبط قواعده :
فقال : نعم من الممكن من خلال التدريب وهو
علم يقبل المران ولاشك أن التعبير له شأن وهو مما عرف به يوسف عليه الصلاة والسلام
أما تأمل أولئك الذين يقولون بأن علم الرؤيا ليس بعلم يتعلم من كلام العلماء المتقدمين
والمتأخرين ولو سألنا أحدهم وقلنا له هل يكون الفقيه فقيها بدون علم وتعلم ؟ وهل يكون
القاضي قاضيا بدون علم وتعلم ؟ وهل يكون الطبيب طبيبا بدون علم وتعلم ؟ فما ظنك سوف
يقول ؟ بلاشك سوف يقول : لا ، فسنقول له : فكذلك المعبر من باب أولى لابد له من تعلم
هذا العلم اهـ
وقال العلامة ابن جبرين رحمه الله في تقديمه
للقواعد الحسنى للشيخ ااسدحان ( ضـ 2 ) :
ووضح الكثير مما يتعلق بالرؤيا والاحلام
وكيف تعبر وما وقع للمعبرين من الموافقات وطرق معرفتهم بتعبيرها اهـ
وغيرهم كثر ، فكل من ألف كتاباً من العلماء
القداما إنما ألفه ليستشفى منه الأصول والفصول والقواعد والفوائد في هذا الفن وليس
للاستعراض وإبراز المهارات ، بيدَ أنه يحذر أن ينقل تفسيرهم لمرائي عصرنا ؛ لأن الرؤيا
تختلف باختلاف ضوابط التنزيل وهي ثلاثة ضوابط ذكرتها في رسالتي « آلات وأدوات تفسير
المنامات »
ومع كوني من المنتصرين لهذا القول إلا أني
لا أبخس القول الآخر حقه من الاجتهاد والله يتولى العباد !!
ثانياً : هل يُعلم ويتعلم أم لا ؟
وهذه المسألة لاتقل أهمية عن ذي قبلها وهي
على نفس الحال والمنوال خلافية لا اتفاقية وخلاصة أقوال الناس فيها أربعة أقوال :
القول الأول : أنه علم محض لا علاقة للفراسة
فيه ، وهذا بعيد عن الصواب
القول الثاني : أنه فراسة محضة لا علاقة
للعلم فيه ، وهذا بعيد أيضاً
القول الثالث : أنه علم وفراسة على خلاف
أيهما الأصل وأيهما الفرع
ولاشك عندي أن التفسير علم والفراسة باب
من أبوابه ومهم من مهماته لقوله تعالى : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } أي : علامات
للمتفرسين ، والعلامات تكسب العلم ، وعليه فتفسير الأحلام علم وفراسة ولأنه ليس كل
علم فراسة ولكن كل فراسة علم جعلنا العلم أصل والفراسة فرع له ، كما في قصة تعبير ابن
سيرين للرجلين الذين رأيا أنهما يؤذنان فأول لأحدهما أنه يسرق والآخر منهما أنه يحج
مع أن الرؤيا واحدة !! وسبب الفرق بينهما أنه تفرس في سيماهما فأول لمن توسم فيه سيما
الصلاح قوله تعالى : { وأذن في الناس بالحج } ولمن توسم فيه سيما السوء قوله تعالى
: { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون }
فكان تفسيره علم مأخوذ من الآيتين وتفريقه
بين الاثنين فراسة مأخوذة من التوسم في سيماهما !! وأما ما يقذفه الله في قلب المعبر
فهذا إلهام والالهام ليس فراسة بل هو حديث القلب ، وهو توفيق من الله تعالى للعباد
القول الرابع : أن التفسير من خصوصيات يوسف
عليه الصلاة والسلام فقط ، ومن سواه فكذب وشعوذة
وأصحاب هذا القول لعلهم يستدلون له بقوله
تعالى : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } ففسروا الاجتباء بالاختصاص
وهذا وارد إلا أنه لايفيد الحصر ؛ فإن الله تعالى يختص بالنعمة الفرد والجماعة وانظر
لقوله تعالى : { وعلمناه صنعة لبوس } مع أن غيره أيضا يجيد صناعة الملبوسات ولكن حسب
المعلم تكون القدرات فهو أفضل من غيره بالصناعة ؛ لأن الذي علمه هو الله ، وهكذا يوسف
أفضل من غيره في التفسير لأن الذي علمه هو الله
وأما وصف هذا العلم بالشعوذة فهو جهل كبير
وشر مستطير وليس هذا محل البسط في الرد عليه ، ويكفينا أن أصحاب هذا القول ليسوا
من أهل العلم في الأساس
مسألة : وماذا عن ظهور
براعة بعض الجهال الأميين في التفسير ؟
الجواب : لذلك عدة احتمالات
الاحتمال الأول : عن
طريق الالهام :
وهذا كرامة من الله تعالى حيث يقذف التعبير
في روع المعبر فيوفق لاصابة الهدف ، وصدور ذلك من جاهل لايلزم أنه لايعلم وإلا فلنترك
كل العلوم ولننتظر الالهام فيها !!
الاحتمال الثاني : عن طريق الاقتصاد :
وسبق أن المقتصد هو الذي يجيد بعض أصول
التعبير المكتسبة من تجارب الحياة ومعرفة أحوال الناس ، وهذا داخل في العلم الذي يقدر
عليه حتى العامي الذي لايكتب ولايقرأ المكتوب ، ولكنها نظرة مقتصدة لبعض الأصول دون
بقيتها التي لاينالها إلا بالعلم
الاحتمال الثالث : عن
طريق التلقي :
وأقصد به عن طريق الجن سواء عن طريق الإستعانة
أو الإعانة وربما كان ممسوساً فتلقي عليه الجن خواطر ايحائية في تعبير المرائي وهو
يشعر أو لايشعر ، ولهذا تجد أغلب من يتقنون هذا الفن دون تلقيه عن طريق العلم لهم
علاقة بعلاج المرضى وربما كان هو مريضاً قبل ذلك !! وقلنا : أغلب ؛ ليخرج بذلك
البعض وهم الأقل ، وهم أقوام أعطاهم الله تعالى من الالهام والحدس مالم يعطه غيرهم
وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء
ثالثاً : خلاصة الموضوع :
الخلاصة أن التعبير علم والفراسة باب من
أبوابه وأنه يمكن تعلمه وتعليمه وعجبتُ ممن يصفونه بالإلهام وينكرون إمكانية تعليمه
ونقول لهم : لو كان كما تقولون فإن الإلهام لاينافي إمكانية التعليم ؛ فإن الذي ألهمه
التعبير قد يلهمه تدريسه أيضًا فكيف وهو علم ذو أصول وفصول ، وقواعد وفوائد ، وأساس
ومراس { وما كان عطاء ربك محظورا } وقد رأيت أن الكثير من مفسري الأحلام الذين
ينكرون إمكانية تَعلم هذا الفن ؛ دعاهم لذلك خشية أن ينافسهم فيه غيرهم ثم يظهر
بعد ذلك جهلهم !! والله المستعان على ما يصفون
وصل
اللهم وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
كتبه
أخوكم
أبو
العباس أنور الرفاعي
anwar2014w@
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق